سورة إبراهيم - تفسير تفسير الشوكاني

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (إبراهيم)


        


قوله: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله خَلَقَ السموات والأرض بالحق} الرؤية هنا هي القلبية، والخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم تعريضاً لأمته، أو الخطاب لكلّ من يصلح له. وقرأ حمزة والكسائي {خالق السموات} ومعنى بالحقّ: بالوجه الصحيح الذي يحقّ أن يخلقها عليه ليستدلّ بها على كمال قدرته. ثم بيّن كمال قدرته سبحانه واستغناءه عن كل واحد من خلقه فقال: {إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ} فيعدم الموجودين ويوجد المعدومين، ويهلك العصاة، ويأتي بمن يطيعه من خلقه، والمقام يحتمل أن يكون هذا الخلق الجديد من نوع الإنسان، ويحتمل أن يكون من نوع آخر {وَمَا ذلك عَلَى الله بِعَزِيزٍ} أي: بممتنع؛ لأنه سبحانه قادر على كل شيء، وفيه أن الله تعالى هو الحقيق بأن يرجى ثوابه ويخاف عقابه؛ فلذلك أتبعه بذكر أحوال الآخرة فقال: {وَبَرَزُواْ لِلَّهِ جَمِيعًا} أي: برزوا من قبورهم يوم القيامة، والبروز: الظهور، والبراز: المكان الواسع لظهوره، ومنه امرأة برزة، أي: تظهر للرجال، فمعنى {برزوا} ظهروا من قبورهم. وعبر بالماضي عن المستقبل تنبيهاً على تحقيق وقوعه كما هو مقرّر في علم المعاني، وإنما قال: {وبرزوا لله} مع كونه سبحانه عالماً بهم لا تخفى عليه خافية من أحوالهم برزوا أو لم يبرزوا؛ لأنهم كانوا يستترون عن العيون عند فعلهم للمعاصي ويظنون أن ذلك يخفى على الله تعالى، فالكلام خارج على ما يعتقدونه.
{فَقَالَ الضعفاء لِلَّذِينَ استكبروا} أي قال: الأتباع الضعفاء للرؤساء الأقوياء المتكبرين لما هم فيه من الرياسة: {إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا} أي: في الدنيا، فكذبنا الرسل وكفرنا بالله متابعة لكم. والتبع جمع تابع، أو مصدر وصف به للمبالغة، أو على تقدير: ذوي تبع. قال الزجاج: جمعهم في حشرهم فاجتمع التابع والمتبوع، فقال الضعفاء للذين استكبروا من أكابرهم عن عبادة الله: إنا كنا لكم تبعاً. جمع تابع، مثل خادم وخدم، وحارس وحرس، وراصد ورصد {فَهَلْ أَنتُمْ مُّغْنُونَ عَنَّا} أي: دافعون عنا {من عذاب الله من شيء} {من} الأولى للبيان، والثانية للتبعيض، أي: بعض الشيء الذي هو عذاب الله؛ يقال: أغنى عنه: إذا دفع عنه الأذى، وأغناه إذا أوصل إليه النفع.
{قَالُواْ لَوْ هَدَانَا الله لَهَدَيْنَاكُمْ} أي: قال المستكبرون مجيبين عن قول المستضعفين، والجملة مستأنفة بتقدير سؤال كأنه قيل: كيف أجابوا؟ أي لو هدانا الله إلى الإيمان لهديناكم إليه. وقيل: لو هدانا الله إلى طريق الجنة لهديناكم إليها. وقيل: لو نجانا الله من العذاب لنجيناكم منه. {سَوَاء عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا ما لَنَا مِن مَّحِيصٍ} أي: مستوٍ علينا الجزع والصبر، والهمزة و{أم} لتأكيد التسوية في قوله: {سَوَاء عَلَيْهِمْ ءأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ} [البقرة: 6]. {مَا لَنَا مِن مَّحِيصٍ} أي: من منجى ومهرب من العذاب، يقال: حاص فلان عن كذا، أي: فرّ وزاغ، يحيص حيصاً وحيوصاً وحيصاناً، والمعنى: ما لنا وجه نتباعد به عن النار، ويجوز أن يكون هذا من كلام الفريقين، وإن كان الظاهر أنه من كلام المستكبرين.
{وَقَالَ الشيطان لَمَّا قُضِىَ الأمر} أي: قال للفريقين هذه المقالة، ومعنى {لما قضي الأمر}: لما دخل أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار على ما يأتي بيانه في سورة مريم. {إِنَّ الله وَعَدَكُمْ وَعْدَ الحق} وهو وعده سبحانه بالبعث والحساب، ومجازاة المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته {وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ} أي: وعدتكم وعداً باطلاً، بأنه لا بعث ولا حساب، ولا جنة ولا نار، فأخلفتكم ما وعدتكم به من ذلك. قال الفراء: وعد الحق هو من إضافة الشيء إلى نفسه كقولهم: مسجد الجامع.
وقال البصريون: وعدكم وعد اليوم الحق {وَمَا كَانَ لِىَ عَلَيْكُمْ مّن سلطان} أي: تسلط عليكم بإظهار حجة على ما وعدتكم به وزينته لكم {إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فاستجبتم لِى} أي: إلا مجرّد دعائي لكم إلى الغواية والضلال بلا حجة ولا برهان، ودعوته إياهم ليست من جنس السلطان حتى تستثنى منه، بل الاستثناء منقطع، أي: لكن دعوتكم فاستجبتم لي، أي: فسارعتم إلى إجابتي. وقيل: المراد بالسلطان هنا: القهر، أي: ما كان لي عليكم من قهر يضطركم إلى إجابتي. وقيل: هذا الاستثناء هو من باب: تحية بينهم ضرب وجيع. مبالغة في نفيه للسلطان عن نفسه كأنه قال: إنما يكون لي عليكم سلطان إذا كان مجرّد الدعاء من السلطان، وليس منه قطعاً.
{فَلاَ تَلُومُونِى} بما وقعتم فيه بسبب وعدي لكم بالباطل وإخلافي لهذا الموعد {وَلُومُواْ أَنفُسَكُمْ} باستجابتكم لي بمجرّد الدعوة التي لا سلطان عليها ولا حجة، فإن من قبل المواعيد الباطلة والدعاوي الزائغة عن طريق الحق فعلى نفسه جنى، ولمارنه قطع، ولا سيما ودعوتي هذه الباطلة، وموعدي الفاسد وقعا معارضين لوعد الله لكم وعد الحق، ودعوته لكم إلى الدار السلام، مع قيام الحجة التي لا تخفى على عاقل، ولا تلتبس إلاّ على مخذول، وقريب من هذا من يقتدي بآراء الرجال المخالفة لما في كتاب الله سبحانه، ولما في سنّة رسوله صلى الله عليه وسلم ويؤثرها على ما فيهما، فإنه قد استجاب للباطل الذي لم تقع عليه حجة، ولا دلّ عليه برهان، وترك الحجة والبرهان خلف ظهره، كما يفعله كثير من المقتدين بالرجال المتنكبين طريق الحق بسوء اختيارهم، اللهم غفرا.
{مَّا أَنَاْ بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنتُمْ بِمُصْرِخِىَّ} يقال: صرخ فلان: إذا استغاث يصرخ صراخاً وصرخاً، واستصرخ بمعنى: صرخ، والمصرخ: المغيث، والمستصرخ: المستغيث. يقال: استصرخني فأصرخته، والصريخ: صوت المستصرخ، والصريخ أيضاً: الصارخ، وهو المغيث والمستغيث، وهو من أسماء الأضداد كما في الصحاح.
قال ابن الأعرابي: الصارخ: المستغيث، والمصرخ: المغيث، ومعنى الآية: ما أنا بمغيثكم مما أنتم فيه من العذاب، وما أنتم بمغيثي مما أنا فيه، وفيه إرشاد لهم إلى أن الشيطان في تلك الحالة مبتلى بما ابتلوا به من العذاب، محتاج إلى من يغيثه ويخلصه مما هو فيه، فكيف يطمعون في إغاثة من هو محتاج إلى من يغيثه؟ ومما ورد مورد هذه الأقوال من قول العرب قول أمية بن أبي الصلت:
فلا تجزعوا إني لكم غير مصرخ *** وليس لكم عندي غناء ولا نفر
و {مصرخيّ} بفتح الياء في قراءة الجمهور، وقرأ الأعمش وحمزة بكسر الياء على أصل التقاء الساكنين. قال الفراء: قراءة حمزة وهم منه، وقلّ من سلم عن خطأ.
وقال الزجاج: هي قراءة رديئة ولا وجه لها إلاّ وجه ضعيف يعني: ما ذكرناه من أنه كسرها على الأصل في التقاء الساكنين.
وقال قطرب: هذه لغة بني يربوع يزيدون على ياء الإضافة ياء، وأنشد الفراء فيما ورد على هذه القراءة قول الشاعر:
قلت لها يا تاء هل لك في *** قالت له ما أنت بالمرضي
{إِنّى كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ} لما كشف لهم القناع بأنه لا يغني عنهم من عذاب الله شيئاً، ولا ينصرهم بنوع من أنواع النصر، صرح لهم بأنه كافر بإشراكهم له مع الله في الرّبوبية، من قبل هذا الوقت الذي قال لهم الشيطان فيه هذه المقالة، وهو ما كان منهم في الدنيا من جعله شريكاً. ولقد قام لهم الشيطان في هذا اليوم مقاماً يقصم ظهورهم ويقطع قلوبهم، فأوضح لهم أولاً أن مواعيده التي كان يعدهم بها في الدنيا باطلة معارضة لوعد الحق من الله سبحانه وأنه أخلفهم ما وعدهم من تلك المواعيد ولم يف لهم بشيء منها، ثم أوضح لهم ثانياً بأنهم قبلوا قوله بما لا يوجب القبول، ولا يتفق على عقل عاقل لعدم الحجة التي لا بدّ للعاقل منها في قبول قول غيره، ثم أوضح ثالثاً بأنه لم يكن منه إلاّ مجرّد الدعوة العاطلة عن البرهان، الخالية عن أيسر شيء مما يتمسك به العقلاء، ثم نعى عليهم رابعاً ما وقعوا فيه، ودفع لومهم له وأمرهم بأن يلوموا أنفسهم؛ لأنهم هم الذين قبلوا الباطل البحت، الذي لا يلتبس بطلانه على من له أدنى عقل، ثم أوضح لهم خامساً بأنه لا نصر عنده ولا إغاثة، ولا يستطيع لهم نفعاً، ولا يدفع عنهم ضرّاً، بل هو مثلهم في الوقوع في البلية والعجز عن الخلوص عن هذه المحنة، ثم صرح لهم سادساً بأنه قد كفر بما اعتقدوه فيه وأثبتوه له، فتضاعفت عليهم الحسرات وتوالت عليهم المصائب.
وإذا كان جملة {إِنَّ الظالمين لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} من تتمة كلامه كما ذهب إليه البعض فهو نوع سابع من كلامه الذي خاطبهم به، فأثبت لهم الظلم، ثم ذكر ما هو جزاؤهم عليه من العذاب الأليم، لا على قول من قال: إنه ابتداء كلام من جهة الله سبحانه.
وقد ذهب جمهور المفسرين إلى أن {ما} مصدرية في {ما أشركتمون} وقيل: يجوز أن تكون موصولة على معنى {إني كفرت} بالذي أشركتمونيه وهو الله، عزّ وجلّ، ويكون هذا حكاية لكفره بالله عند أن أمره بالسجود لآدم.
{وَأُدْخِلَ الذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات جنات تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأنهار} لما أخبر سبحانه بحال أهل النار أخبر بحال أهل الجنة. وقرأ الجمهور {أدخل} على البناء للمفعول، وقرأ الحسن {وأدخل} على الاستقبال والبناء للفاعل، أي: وأنا أدخل الذين آمنوا، ثم ذكر سبحانه خلودهم في الجنات وعدم انقطاع نعيمهم، ثم ذكر أن ذلك بإذن ربهم، أي: بتوفيقه ولطفه وهدايته، هذا على قراءة الجمهور، وأما على قراءة الحسن فيكون {بإذن ربهم} متعلقاً بقوله: {تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سلام} أي: تحية الملائكة في الجنة سلام بإذن ربهم، وقد تقدّم تفسير هذا في سورة يونس.
وقد أخرج عبد بن حميد، وابن المنذر عن قتادة في قوله: {وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ} قال: بخلق آخر.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر عن ابن جريج في قوله: {فقال الضعفاء} قال: الأتباع {لِلَّذِينَ استكبروا} قال: للقادة.
وأخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم في قوله: {سَوَاء عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا} قال زيد بن أسلم: جزعوا مائة سنة. وصبروا مائة سنة.
وأخرج ابن أبي حاتم، والطبراني، وابن مردويه عن كعب بن مالك يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: {سَوَاء عَلَيْنَا} الآية قال: «يقول أهل النار: هلموا فلنصبر، فيصبرون خمسمائة عام، فلما رأوا ذلك لا ينفعهم قالوا: هلموا فلنجزع، فبكوا خمسمائة عام، فلما رأوا ذلك لا ينفعهم قالوا: {سواء علينا أجزعنا أم صبرنا ما لنا من محيص}» والظاهر أن هذه المراجعة كانت بينهم بعد دخولهم النار، كما في قوله تعالى: {وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِى النار فَيَقُولُ الضعفاء لِلَّذِينَ استكبروا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنتُم مُّغْنُونَ عَنَّا نَصِيباً مّنَ النار * قَالَ الذين استكبروا إِنَّا كُلٌّ فِيهَا إِنَّ الله قَدْ حَكَمَ بَيْنَ العباد} [غافر: 47- 48].
وأخرج ابن المبارك في الزهد، وابن جرير، وابن أبي حاتم، والطبراني، وابن مردويه، وابن عساكر عن عقبة بن عامر يرفعه، وذكر فيه حديث الشفاعة، ثم قال: «ويقول الكافر عند ذلك: قد وجد المؤمنون من يشفع لهم، فمن يشفع لنا؟ ما هو إلاّ إبليس فهو الذي أضلنا، فيأتون إبليس فيقولون: قد وجد المؤمنون من يشفع لهم قم أنت فاشفع لنا فإنك أنت أضللتنا، فيقوم إبليس فيثور من مجلسه من أنتن ريح شمها أحد قط، ثم يعظهم بجهنم، ويقول عند ذلك {إِنَّ الله وَعَدَكُمْ وَعْدَ الحق وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ}»
الآية. وضعف السيوطي إسناده، ولعلّ سبب ذلك كون في إسناده رشدين ابن سعد عن عبد الرحمن بن زياد بن أنعم، عن دجين الحجزي، عن عقبة.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن الحسن قال: إذا كان يوم القيامة قام إبليس خطيباً على منبر من نار فقال: {إِنَّ الله وَعَدَكُمْ} إلى قوله: {وَمَا أَنتُمْ بِمُصْرِخِىَّ} قال: بناصريّ {إِنّى كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ} قال: بطاعتكم إياي في الدنيا.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر عن الشعبي في هذه الآية قال: خطيبان يقومان يوم القيامة: إبليس، وعيسى، فأما إبليس فيقوم في حزبه فيقول: هذا القول يعني: المذكور في الآية، وأما عيسى فيقول: {مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَآ أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعبدوا الله رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَّا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنتَ على كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [المائدة: 117].
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {مَّا أَنَاْ بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنتُمْ بِمُصْرِخِىَّ} قال: ما أنا بنافعكم، وما أنتم بنافعيّ {إِنّى كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ} قال شركه: عبادته.
وأخرج عبد الرزاق، وابن المنذر عن قتادة {مَّا أَنَاْ بِمُصْرِخِكُمْ} قال: ما أنا بمغيثكم.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر عن ابن جريج في قوله: {تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سلام} قال: الملائكة يسلمون عليهم في الجنة.


لما ذكر سبحانه مثل أعمال الكفار، وأنها كرماد اشتدّت به الريح، ثم ذكر نعيم المؤمنين، وما جازاهم الله به من إدخالهم الجنة خالدين فيها، وتحية الملائكة لهم ذكر تعالى ها هنا مثلاً للكلمة الطيبة، وهي كلمة الإسلام، أي: لا إله إلاّ الله، أو ما هو أعمّ من ذلك من كلمات الخير، وذكر مثلاً للكلمة الخبيثة، وهي كلمة الشرك، أو ما هو أعم من ذلك من كلمات الشرّ، فقال مخاطباً لرسول الله صلى الله عليه وسلم، أو مخاطباً لمن يصلح للخطاب: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ الله مَثَلاً} أي: اختار مثلاً وضعه في موضعه اللائق به، وانتصاب {مثلاً} على أنه مفعول ضرب، و{كلمة} بدل منه، ويجوز أن تنتصب الكلمة على أنها عطف بيان ل {مثلاً} ويجوز أن تنتصب الكلمة بفعل مقدّر، أي: جعل كلمة طيبة كشجرة طيبة، وحكم بأنها مثلها، ومحل {كشجرة} النصب على أنها صفة لكلمة، أو الرفع على تقدير مبتدأ، أي: هي كشجرة، ويجوز أن تكون {كلمة} أوّل مفعولي {ضرب} وأخرت عن المفعول الثاني، وهو {مثلاً} لئلا تبعد عن صفتها، والأوّل أولى، و{كلمة} وما بعدها تفسير للمثل، ثم وصف الشجرة بقوله: {أَصْلُهَا ثَابِتٌ} أي: راسخ آمن من الانقلاع بسبب تمكنها من الأرض بعروقها {فِى السماء} أي: أعلاها ذاهب إلى جهة السماء مرتفع في الهواء.
ثم وصفها سبحانه بأنها {تُؤْتِى أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ} كل وقت {بِإِذْنِ رَبّهَا} بإرادته ومشيئته، قيل: وهي النخلة. وقيل غيرها. وقيل: والمراد بكونها {تؤتي أكلها كل حين} أي: كل ساعة من الساعات من ليل أو نهار في جميع الأوقات من غير فرق بين شتاء وصيف. وقيل: المراد في أوقات مختلفة من غير تعيين؛ وقيل: كل غدوة وعشية، وقيل: كل شهر. وقيل: كل ستة أشهر. قال النحاس: وهذه الأقوال متقاربة غير متناقضة؛ لأن الحين عند جميع أهل اللغة إلاّ من شذّ منهم بمعنى الوقت يقع لقليل الزمان وكثيره، وأنشد الأصمعي قول النابغة:
تطلقه حيناً وحيناً تراجع ***
قال النحاس: وهذا يبين لك أن الحين بمعنى الوقت.
وقد ورد الحين في بعض المواضع يراد به: أكثر كقوله: {هَلْ أتى عَلَى الإنسان حِينٌ مّنَ الدهر} [الإنسان: 1].
وقد تقدّم بيان أقوال العلماء في الحين في سورة البقرة في قوله: {وَلَكُمْ فِى الأرض مُسْتَقَرٌّ ومتاع إلى حِينٍ} [البقرة: 36].
وقال الزجاج: الحين: الوقت طال أم قصر. {وَيَضْرِبُ الله الأمثال لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} يتفكرون أحوال المبدأ والمعاد. وبدائع صنعه سبحانه الدالة على وجوده ووحدانيته، وفي ضرب الأمثال زيادة تذكير وتفهيم وتصوير للمعاني. {وَمَثلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ} قد تقدّم تفسيرها. وقيل: هي الكافر نفسه، والكلمة الطيبة: المؤمن نفسه.
{كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ} أي: كمثل شجرة خبيثة، قيل: هي شجرة الحنظل. وقيل: هي شجرة الثوم. وقيل: الكمأة؛ وقيل: الطحلبة. وقيل: هي الكشوث بالضم وآخره مثلثة، وهي شجرة لا ورق لها ولا عروق في الأرض. قال الشاعر:
وهي كشوث فلا أصل ولا ثمر ***
وقرئ: {ومثلاً كلمة} بالنصب عطفاً على كلمة طيبة {اجتثت مِن فَوْقِ الأرض} أي: استؤصلت واقتلعت من أصلها، ومنه قول الشاعر:
هو الجلاء الذي يجتث أصلكم ***
قال المؤرج: أخذت جثتها وهي نفسها، والجثة: شخص الإنسان، يقال: جثَّه: قلعه، واجتثه: اقتلعه. ومعنى {من فوق الأرض}: أنه ليس لها أصل راسخ، وعروق متمكنة من الأرض {ما لَهَا مِن قَرَارٍ} أي: من استقرار على الأرض. وقيل: من: ثبات على الأرض، كما أن الكافر وكلمته لا حجة له ولا ثبات فيه، ولا خير يأتي منه أصلاً، ولا يصعد له قول طيب ولا عمل طيب.
{يُثَبّتُ الله الذين ءامَنُواْ بالقول الثابت} أي: بالحجة الواضحة، وهي الكلمة الطيبة المتقدّم ذكرها، وقد ثبت في الصحيح أنها كلمة الشهادة شهادة أن لا إله إلاّ الله وأن محمداً رسول الله وذلك إذا قعد المؤمن في قبره. قال النبي صلى الله عليه وسلم: «فذلك قوله تعالى: {يُثَبّتُ الله الذين ءامَنُواْ بالقول الثابت}» وقيل: معنى تثبيت الله لهم: هو أن يدوموا على القول الثابت، ومنه قول عبد الله بن رواحة:
يثبت الله ما آتاك من حسن *** تثبيت موسى ونصراً كالذي نصروا
ومعنى {في الحياة الدنيا} أنهم يستمرّون على القول الثابت في الحياة الدنيا. قال جماعة: المراد بالحياة الدنيا في هذه الآية: القبر؛ لأن الموتى في الدنيا حتى يبعثوا. ومعنى {وَفِي الآخرة} وقت الحساب. وقيل: المراد بالحياة الدنيا: وقت المساءلة في القبر، وفي الآخرة: وقت المساءلة يوم القيامة: والمراد: أنهم إذا سئلوا عن معتقدهم ودينهم أوضحوا ذلك بالقول الثابت من دون تلعثم ولا تردّد ولا جهل، كما يقول: من لم يوفق: لا أدري، فيقال له: لا دريت ولا تليت {وَيُضِلُّ الله الظالمين} أي: يضلهم عن حجتهم التي هي القول الثابت فلا يقدرون على التكلم بها في قبورهم، ولا عند الحساب، كما أضلهم عن اتباع الحق في الدنيا. قيل: والمراد بالظالمين هنا: الكفرة. وقيل: كل من ظلم نفسه ولو بمجرد الإعراض عن البينات الواضحة، فإنه لا يثبت في مواقف الفتن، ولا يهتدي إلى الحق. ثم ذكر سبحانه أنه يفعل ما يشاء من التثبيت والخذلان لا رادّ لحكمه، ولا يسأل عما يفعل. قال الفراء: أي لا تنكر له قدرة ولا يسأل عما يفعل، والإظهار في محل الإضمار في الموضعين لتربية المهابة كما قيل: والله أعلم.
وقد أخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي، عن ابن عباس في قوله: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ الله مَثَلاً كَلِمَةً طَيّبَةً} قال: شهادة أن لا إله إلاّ الله {كَشَجَرةٍ طَيّبَةٍ} وهو المؤمن {أَصْلُهَا ثَابِتٌ} يقول: لا إله إلاّ الله ثابت في قلب المؤمن {وَفَرْعُهَا فِى السماء} يقول: يرفع بها عمل المؤمن إلى السماء.
{وَمَثلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ} وهي الشرك {كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ} يعني: الكافر {اجتثت مِن فَوْقِ الأرض لَهَا مِن قَرَارٍ} يقول: الشرك ليس له أصل يأخذ به الكافر ولا برهان، ولا يقبل الله مع الشرك عملاً.
وقد روي نحو هذا عن جماعة من التابعين ومن بعدهم.
وأخرج الترمذي، والنسائي، والبزار، وأبو يعلى، وابن جرير، وابن أبي حاتم، وابن حبان، والحاكم وصححه، وابن مردويه عن أنس قال: أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بقناع من بسر فقال: {مَثَلُ كَلِمَةً طَيّبَةً كَشَجَرةٍ طَيّبَةٍ} حتى بلغ: {تُؤْتِى أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبّهَا} قال: «هي النخلة» {وَمَثلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ} حتى بلغ: {ما لها مِن قَرَارٍ} قال: «هي الحنظلة».
وروي موقوفاً على أنس، قال الترمذي: الموقوف أصح.
وأخرج أحمد وابن مردويه. قال السيوطي بسند جيد عن عمر، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم في قوله: {كَشَجَرةٍ طَيّبَةٍ} قال: «هي التي لا ينقص ورقها قال: هي النخلة».
وأخرج البخاري وغيره من حديث ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً لأصحابه: «إن شجرة من الشجر، لا يطرح ورقها مثل المؤمن» قال: فوقع الناس في شجر البوادي. ووقع في قلبي أنها النخلة، فاستحييت حتى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هي النخلة» وفي لفظ للبخاري قال: «أخبروني عن شجرة كالرجل المسلم لا يتحاتّ ورقها وتؤتي أكلها كل حين» فذكر نحوه. وفي لفظ لابن جرير وابن مردويه من حديث ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هل تدرون ما الشجرة الطيبة؟»، «ثم قال: هي النخلة» وروي نحو هذا عن جماعة من الصحابة والتابعين.
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {تُؤْتِى أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبّهَا} قال: كل ساعة بالليل والنهار والشتاء والصيف، وذلك مثل المؤمن يطيع ربه بالليل والنهار والشتاء والصيف.
وأخرج ابن أبي حاتم عنه في الآية قال: يكون أخضر ثم يكون أصفر.
وأخرج عنه أيضاً في قوله: {كُلَّ حِينٍ} قال: جذاذ النخل.
وأخرج الفريابي، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عنه أيضاً: {تُؤْتِى أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ} قال: تطعم في كل ستة أشهر.
وأخرج أبو عبيد، وابن أبي شيبة، وابن جرير، وابن المنذر عنه أيضاً قال: الحين هنا: سنة.
وأخرج البيهقي عنه أيضاً قال: الحين: قد يكون غدوة وعشية.
وقد روي عن جماعة من السلف في هذا أقوال كثيرة.
وأخرج البخاري، ومسلم، وأهل السنن، وغيرهم عن البراء بن عازب، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «المسلم إذا سئل في القبر يشهد أن لا إله إلاّ الله وأن محمداً رسول الله، فذلك قوله سبحانه: {يُثَبّتُ الله الذين ءامَنُواْ بالقول الثابت فِى الحياة الدنيا وَفِى الآخرة}».
وأخرج ابن أبي شيبة، والبيهقي عن البراء بن عازب في قوله: {يُثَبّتُ الله الذين ءامَنُواْ} الآية قال: التثبيت في الحياة الدنيا إذا جاء الملكان إلى الرجل في القبر فقالا: من ربك؟ فقال: ربي الله، قال: وما دينك؟ قال: ديني الإسلام. قال: ومن نبيك؟ قال نبيي محمد صلى الله عليه وسلم. فذلك التثبيت في الحياة الدنيا.
وأخرج البيهقي عن ابن عباس نحوه.
وأخرج الطبراني في الأوسط، وابن مردويه عن أبي سعيد في الآية قال: في الآخرة القبر.
وأخرج ابن مردويه عن عائشة قالت: قال النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: {يُثَبّتُ الله الذين ءامَنُواْ} الآية. قال: «هذا في القبر».
وأخرج البيهقي من حديثها نحوه.
وأخرج البزار عنها أيضاً قالت:«قلت: يا رسول الله، تبتلى هذه الأمة في قبورها، فكيف بي وأنا امرأة ضعيفة؟ قال: {يُثَبّتُ الله الذين ءامَنُواْ}» الآية وقد وردت أحاديث كثيرة في سؤال الملائكة للميت في قبره، وفي جوابه عليهم وفي عذاب القبر وفتنته، وليس هذا موضع بسطها، وهي معروفة.


قوله: {أَلَمْ تَرَ}: هذا خطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم أو لكل من يصلح له، وهو تعجيب من حال الكفار حيث جعلوا بدل نعمة الله عليهم الكفر أي: بدل شكرها الكفر، بها، وذلك بتكذيبهم محمدًا صلى الله عليه وسلم حين بعثه الله منهم، وأنعم عليهم به، وقد ذهب جمهور المفسرين إلى أنهم كفار مكة وأن الآية نزلت فيهم. وقيل: نزلت في الذين قاتلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر. وقيل: نزلت في بطنين من بطون قريش بني مخزوم، وبني أمية. وقيل: نزلت في منتصرة العرب. وهم جبلة بن الأيهم وأصحابه، وفيه نظر، فإن جبلة وأصحابه لم يسلموا إلاّ في خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه. وقيل: إنها عامة في جميع المشركين. وقيل: المراد بتبديل نعمة الله كفراً أنهم لما كفروها سلبهم الله ذلك فصاروا متبدّلين بها الكفر {وَأَحَلُّواْ قَوْمَهُمْ دَارَ البوار} أي: أنزلوا قومهم بسبب ما زينوه لهم من الكفر دار البوار، وهي جهنم، والبوار: الهلاك. وقيل: هم قادة قريش أحلوا قومهم يوم بدر دار البوار أي: الهلاك وهو القتل الذي أصيبوا به، ومنه قول الشاعر:
فلم أرَ مثلهم أبطال حرب *** غداة الحرب إذ خيف البوار
والأوّل أولى لقوله: {جَهَنَّمَ} فإنه عطف بيان لدار البوار، و{يَصْلَوْنَهَا} في محل نصب على الحال، أو هو مستأنف لبيان كيفية حلولهم فيها {وَبِئْسَ القرار} أي: بئس القرار قرارهم فيها، أو بئس المقرّ جهنم، فالمخصوص بالذمّ محذوف {وَجَعَلُواْ للَّهِ أَندَادًا} معطوف على {وأحلوا} أي: جعلوا لله شركاء في الربوبية، أو في التسمية وهي الأصنام. قرأ ابن كثير وأبو عمرو {ليضلوا} بفتح الياء أي: ليضلوا أنفسهم عن سبيل الله، وتكون اللام للعاقبة، أي: ليتعقب جهلهم لله أنداداً ضلالهم، لأن العاقل لا يريد ضلال نفسه، وحسن استعمال لام العاقبة هنا؛ لأنها تشبه الغرض والغاية من جهة حصولها في آخر المراتب، والمشابهة أحد الأمور المصححة للمجاز. وقرأ الباقون بضم الياء ليوقعوا قومهم في الضلال عن سبيل الله، فهذا هو الغرض من جعلهم لله أنداداً. ثم هدّدهم سبحانه، فقال لنبيه صلى الله عليه وسلم: {قُلْ تَمَتَّعُواْ} بما أنتم فيه من الشهوات، وما زينته لكم أنفسكم من كفران النعم وإضلال الناس {فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النار} أي: مردّكم ومرجعكم إليها ليس إلا، ولما كان هذا حالهم، وقد صاروا لفرط تهالكهم عليه وانهماكهم فيه لا يقلعون عنه، ولا يقبلون فيه نصح الناصحين، جعل الأمر بمباشرته مكان النهي قربانه إيضاحاً لما تكون عليه عاقبتهم، وأنهم لا محالة صائرون إلى النار فلا بدّ لهم من تعاطي الأسباب المقتضية ذلك، فجملة: {فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النار} تعليل للأمر بالتمتع، وفيه من التهديد ما لا يقادر قدره.
ويجوز أن تكون هذه الجملة جواباً لمحذوف دلّ عليه سياق الكلام، كأنه قيل: فإن دمتم على ذلك فإن مصيركم إلى النار، والأوّل أولى والنظم القرآني عليه أدلّ. وذلك كما يقال لمن يسعى في مخالفة السلطان: اصنع ما شئت من المخالفة، فإن مصيرك إلى السيف.
{قُل لّعِبَادِىَ الذين ءامَنُواْ يُقِيمُواْ الصلاة وَيُنْفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّا وَعَلانِيَةً} لما أمره بأن يقول للمبدّلين نعمة الله كفراً الجاعلين لله أنداداً ما قاله لهم، أمره سبحانه أن يقول للطائفة المقابلة لهم، وهي طائفة المؤمنين، هذا القول، والمقول محذوف دلّ عليه المذكور، أي: قل لعبادي: أقيموا وأنفقوا ويقيموا وينفقوا، فجزم {يقيموا} على أنه جواب الأمر المحذوف، وكذلك {ينفقوا} ذكر معنى هذا الفراء.
وقال الزجاج: إنّ يقيموا مجزوم بمعنى اللام، أي: ليقيموا فأسقطت اللام، ثم ذكر وجهاً آخر للجزم مثل ما ذكره الفراء. وانتصاب {سرّا} ً و{علانية} إما على الحال، أي: مسرين ومعلنين، أو على المصدر، أي: إنفاق سرّ وإنفاق علانية، أو على الظرف، أي: وقت سرّ ووقت علانية. قال الجمهور: السرّ: ما خفي. والعلانية: ما ظهر. وقيل: السرّ: التطوّع، والعلانية الفرض، وقد تقدم بيان هذا عند تفسير قوله: {إِن تُبْدُواْ الصدقات فَنِعِمَّا هِىَ} [البقرة: 271].
{مّن قَبْلِ أَن يَأْتِىَ يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خلال} قال أبو عبيدة: البيع ها هنا: الفداء، والخلال: المخالة، وهو مصدر. قال الواحدي: هذا قول جميع أهل اللغة، وقال أبو عليّ الفارسي: يجوز أن يكون جمع خلة مثل برمة وبرام وعلبة وعلاب، والمعنى: أن يوم القيامة لا بيع فيه حتى يفتدي المقصر في العمل نفسه من عذاب الله بدفع عوض عن ذلك، وليس هناك مخاللة حتى يشفع الخليل لخليله، وينقذه من العذاب، فأمرهم سبحانه بالإنفاق في وجوه الخير مما رزقهم الله، ما داموا في الحياة الدنيا قادرين على إنفاق أموالهم من قبل أن يأتي يوم القيامة؛ فإنهم لا يقدرون على ذلك، بل لا مال لهم إذ ذاك، فالجملة، أعني: {مّن قَبْلِ أَن يَأْتِىَ يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خلال} لتأكيد مضمون الأمر بالإنفاق مما رزقهم الله، ويمكن أن يكون فيها أيضاً تأكيد لمضمون الأمر بإقامة الصلاة؛ وذلك لأن تركها كثيراً ما يكون سبب الاشتغال بالبيع، ورعاية حقوق الأخلاء، وقد تقدم في البقرة تفسير البيع والخلال.
{الله الذى خَلَقَ السموات والأرض} أي: أبدعهما واخترعهما على غير مثال، وخلق ما فيهما من الأجرام العلوية والسفلية، والاسم الشريف مبتدأ، وما بعده خبره {وَأَنزَلَ مِنَ السماء مَاء} المراد بالسماء هنا جهة العلو، فإنه يدخل في ذلك الفلك عند من قال: إن ابتداء المطر منه.
ويدخل فيه السحاب عند من قال: إن ابتداء المطر منها، وتدخل فيه الأسباب التي تثير السحاب كالرياح. وتنكير الماء هنا للنوعية أي: نوعاً من أنواع الماء، وهو ماء المطر {فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثمرات رِزْقاً لَّكُمْ} أي: أخرج بذلك الماء من الثمرات المتنوعة رزقاً لبني آدم يعيشون به، و{من} في {من الثمرات} للبيان كقولك: أنفقت من الدراهم، وقيل: للتبعيض؛ لأن الثمرات منها ما هو رزق لبني آدم، ومنها ما ليس برزق لهم، وهو ما لا يأكلونه ولا ينتفعون به {وَسَخَّرَ لَكُمُ الفلك} فجرت على إرادتكم واستعملتموها في مصالحكم. ولذا قال: {لِتَجْرِىَ فِى البحر} كما تريدون وعلى ما تطلبون {بِأَمْرِهِ} أي: بأمر الله ومشيئته، وقد تقدم تفسير هذا في البقرة {وَسَخَّرَ لَكُمُ الأنهار} أي: ذللها لكم بالركوب عليها، والإجراء لها إلى حيث تريدون.
{وَسَخَّر لَكُمُ الشمس والقمر} لتنتفعوا بهما وتستضيئوا بضوئهما. وانتصاب {دائبين} على الحال، والدؤوب: مرور الشيء في العمل على عادة جارية، أي: دائبين في إصلاح ما يصلحانه من النبات وغيره. وقيل: {دائبين} في السير امتثالاً لأمر الله، والمعنى: يجريان إلى يوم القيامة لا يفتران ولا ينقطع سيرهما {وسخر لكم الليل والنهار} يتعاقبان، فالنهار لسعيكم في أمور معاشكم وما تحتاجون إليه من أمور دنياكم. والليل لتسكنوا كما قال سبحانه: {وَمِن رَّحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اليل والنهار لِتَسْكُنُواْ فِيهِ وَلِتَبتَغُواْ مِن فَضْلِهِ} [القصص: 73] {وَآتَاكُم مّن كُلّ مَا سَأَلْتُمُوهُ} قال الأخفش: أي أعطاكم من كل مسؤول سألتموه شيئاً، فحذف شيئاً. وقيل: المعنى: وآتاكم من كل ما سألتموه ومن كل ما لم تسألوه، فحذفت الجملة الأخرى قاله ابن الأنباري. وقيل: {من} زائدة، أي: آتاكم كل ما سألتموه. وقيل: للتبعيض، أي: آتاكم بعض كل ما سألتموه. وقرأ ابن عباس، والضحاك، والحسن، وقتادة {من كل} بتنوين كلّ، وعلى هذه القراءة يجوز أن تكون {ما} نافية، أي: آتاكم من جميع ذلك حال كونكم غير سائلين له، ويجوز أن تكون موصولة أي: آتاكم من كل شيء الذي سألتموه {وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ الله لاَ تُحْصُوهَا} أي وإن تتعرّضوا لتعداد نعم الله التي أنعم بها عليكم إجمالاً فضلاً عن التفصيل لا تطيقوا إحصاءها بوجه من الوجوه، ولا تقوموا بحصرها على حال من الأحوال، وأصل الإحصاء: أن الحاسب إذا بلغ عقداً معيناً من عقود الأعداد، وضع حصاة ليحفظه بها، ومعلوم أنه لو رام فرد من أفراد العباد أن يحصي ما أنعم الله به عليه في خلق عضو من أعضائه، أو حاسة من حواسه لم يقدر على ذلك قط، ولا أمكنه أصلاً، فكيف بما عدا ذلك من النعم في جميع ما خلقه الله في بدنه، فكيف بما عدا ذلك من النعم الواصلة إليه في كل وقت على تنوعها، واختلاف أجناسها، اللهم إنا نشكرك على كلّ نعمة أنعمت بها علينا مما لا يعلمه إلاّ أنت، ومما علمناه شكراً لا يحيط به حصر، ولا يحصره عد، وعدد ما شكرك الشاكرون بكل لسان في كل زمان {إِنَّ الإنسان لَظَلُومٌ} لنفسه بإغفاله لشكر نعم الله عليه، وظاهره شمول كل إنسان، وقال الزجاج: إن الإنسان اسم جنس يقصد به الكافر خاصة كما قال: {إِنَّ الإنسان لَفِى خُسْرٍ} [العصر: 2]. {كَفَّارٌ} أي: شديد كفران نعم الله عليه جاحد لها، غير شاكر لله سبحانه عليها، كما ينبغي ويجب عليه.
وقد أخرج عبد الرزاق، وسعيد بن منصور، والبخاري، والنسائي، وابن جرير، وابن أبي حاتم، وابن مردويه، والبيهقي عن ابن عباس في قوله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين بَدَّلُواْ نِعْمَةَ الله كُفْرًا} قال: هم كفار أهل مكة.
وأخرج البخاري في تاريخه، وابن جرير، وابن المنذر، وابن مردويه عن عمر بن الخطاب في قوله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين بَدَّلُواْ نِعْمَةَ الله كُفْرًا} قال: هما الأفجران من قريش: بنو المغيرة، وبنو أمية، فأما بنو المغيرة فكفيتموهم يوم بدر، وأما بنو أمية فمتعوا إلى حين.
وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس، عن عمر نحوه.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والطبراني في الأوسط، والحاكم وصححه، وابن مردويه من طرق عن عليّ في الآية نحوه أيضاً.
وأخرج عبد الرزاق، والفريابي، والنسائي، وابن جرير، وابن أبي حاتم، وابن الأنباري، والحاكم وصححه، وابن مردويه، والبيهقي عن أبي الطفيل، أن ابن الكوّاء سأل علياً عن الذين بدلوا نعمة الله كفراً. قال: هم الفجار من قريش كفيتهم يوم بدر. قال: فمن الذين ضلّ سعيهم في الحياة الدنيا؟ قال: منهم أهل حروراء.
وقد روي في تفسير هذه الآية عن عليّ من طرق نحو هذا.
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في الآية قال: هم جبلة بن الأيهم، والذين اتبعوه من العرب فلحقوا بالروم.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر عن ابن عباس {وَأَحَلُّواْ قَوْمَهُمْ دَارَ البوار} قال: الهلاك.
وأخرج عبد بن حميد، وابن المنذر عن قتادة في قوله: {وَجَعَلُواْ للَّهِ أَندَادًا} قال: أشركوا بالله.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم عن مجاهد {وَسَخَّرَ لَكُمُ الأنهار} قال: بكل فائدة.
وأخرج ابن جرير عن ابن عباس {وَسَخَّر لَكُمُ الشمس والقمر دَائِبَينَ} قال: دؤوبهما في طاعة الله.
وأخرج ابن أبي حاتم عن عكرمة {وَآتَاكُم مّن كُلّ مَا سَأَلْتُمُوهُ} قال: من كل شيء رغبتم إليه فيه.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر عن مجاهد مثله.
وأخرج ابن جرير عن الحسن قال: من كل الذي سألتموه.
وأخرج ابن أبي الدنيا، والبيهقي في الشعب عن سليمان التيمي قال: إن الله أنعم على العباد على قدره، وكلفهم الشكر على قدرهم.
وأخرجا أيضاً عن بكر بن عبد الله المزني قال: يا ابن آدم إن أردت أن تعلم قدر ما أنعم الله عليك فغمض عينيك.
وأخرج البيهقي عن أبي الدرداء قال: من لم يعرف نعمة الله عليه إلاّ في مطعمه ومشربه، فقد قلّ عمله وحضر عذابه.
وأخرج ابن أبي الدنيا، والبيهقي عن أبي أيوب القرشي مولى بني هاشم قال: قال داود عليه السلام: «ربّ أخبرني ما أدنى نعمتك عليّ، فأوحى إليّ: يا داود تنفس فتنفس، فقال هذا أدنى نعمتي عليك».
وأخرج ابن أبي حاتم عن عمر بن الخطاب أنه قال: اللهم اغفر لي ظلمي وكفري. فقال قائل: يا أمير المؤمنين، هذا الظلم، فما بال الكفر؟ قال: {إن الإنسان لظلوم كفار}.

1 | 2 | 3